الأحد، 19 يوليو 2015

منهجية البعث والاحياء

 نتيجة لأحداث التاريخية التي عرفتها منطقة الشرق العربي عموما, ومصر على وجه الخصوص في أواخر القرن التاسع  عشر وبداية القرن العشرين ظهرت حركة شعرية متميزة  اختلف الباحثون والناقدون في تسميتها, فمنهم من سماها المدرسة التقليدية ومنهم المدرسة المحافظة , إلا أن هدفهم كان واحدا إحياء نموذج القصيدة العربية و إنقاذها من الضعف والضحالة الذي أصابها, والنهوض بها عبر محاكاة النماذج الشعرية القديمة من حيث الشكل ومن حيث خصائص المضمون ومن أهم رواد هذا الاتجاه أحمد شوقي, محمود سامي البارودي, حافظ إبراهيم, و إسماعيل صبري.  ويعتبر محمود سامي البارودي من رواد هذه التجربة الشعرية في عصر  النهضة الذين تمكنوا من الدود على هذا الاتجاه ولد سنة 1839 في حي باب الخلق في القاهرة بمصر .
           فهل استطاع محمود سامي البارودي في هذه القصيدة الامتثال للنموذج التقليدي .وإلى أي حد وظف التراث الشعري والتقيد  بملامح القصيدة التقليدية سواء من حيث الشكل أو من حيث خصائص المضمون ؟
 إن المتأمل في هذه القصيدة يدرك من الوهلة الأولى أن شكلها لا يختلف في شيء عن القصائد العربية القديمة فهي من الشعر العمودي الذي يقوم على نظام الشطرين المتناظرين (صدر- عجز)، ويتقيد فيه صاحبه بنفس الوزن والقافية والروي.
        والعنوان سوف يبين الحق مركب فعلي يحيل على أمل يمكن التحقق في المستقبل, حيث يفيد في مجمله استحضار الشاعر لقيمة تراثية الموروثة متمثلة في قيمة المدح  مما يفضي بنا إلى استنتاج عام مفاده أننا على عتبات تجربة تراثية إحيائية.
         كما أن قراءة أبياتها ( 1- 6-11-20) تفضي بنا إلى استنتاج عام مفاده أن ثمة مواقف مختلفة وأبعاد متعددة، ومعاني متنوعة، تختزل تجربة الشاعر وتعلن عن أحوله النفسية، وانفعالاته الداخلية، وخصاله النبيلة.
ولكي نقف بشكل مفصل على هذا الأمر سنعمل على تقسيم القصيدة إلى مجموعة من الوحدات.
الوحدة الأولى : وتضم الأبيات من 1 إلى 5 ) حيث يبدأ فيها الشاعر بمقدمة وجدانية يناجي فيها طيف ابنته سميرة وهو في المنفى.
الوحدة الثانية : وتضم الأبيات من ( 6 إلى 10 ) تعبير الشاعر عن الإحساس بالمعاناة والتحلي بالصبر في مواجهتها.
الوحدة الثالثة :  وتضم الأبيات من ( 11 إلى 19 ) افتخار الشاعر بمجموعة من القيم منها عزة النفس والتطلع إلى المعالي والشاعرية...
الوحدة الرابعة وتضم الأبيات من ( 20 إلى 24 ) تعزية الشاعر نفسه وتبرير فشله مع إبراز أمله في انفراج غمته قريبا.
       من خلال ما سبق يتبين أن النص تجربة يعبر فيها الشاعر عن معاناته من فراق الأهل ومن غربة في المنفى بعيدا عن الوطن كما يفتخر فيها بخصاله الحميدة ويبدوا أن هذه المضامين موافقة لخطاب إحياء النموذج في إطار غرض الفخر والمعاناة الشخصية .
      كما يتبين أن القصيدة ليست واحدة  بل تتعدد باختلاف المواقف المعبرة عنها. ومن هنا نلحظ أن قصيدة البارودي تخضع لتعدد الأغراض الشعرية مما يدل على أن الشاعر اتخذ من النظام التقليدي القديم نموذج له.
     وللتعبير عن تلك المضامين اختار الشاعر ألفاظا من القاموس الشعر القديم (السمادر-,مندوحة-المعاير-المفاقر-فواغر-رزية...) ويتميز في معجمه بين ثلاث حقول دلالية : تتضمن الأولى ألفاظا وعبارات تدل على الفراق والمعاناة ( تأوب – الطيف – الخواطر – بعد... ) بينما تدل الثانية على الصبر والتفاؤل صبرت – يركن – أصابه... ) في حين تحيل الثالثة علىالفخر ( ملكت – عقاب – غادرتها – رمت – أبت – الكريمة – نفسي... ) .
       من خلال مما سبق يتبين أن الشاعر قد تعامل مع حقول دلالية متعددة ساهمت في تشكيل لحمة النص، وكذالك تبيان مدى تشبثه بالقيم الثقافية الموروثة،التي تشدك بحبال قوية إلى الماضي البعيد بكل ما يحبل به من قيم لم يترد البارودي في إحيائها وبعثها لكن يبقى أبرزها تلك التي تغنت بقيم الفروسية وهو بذالك يحاكي مجموعة من الشعراء القدماء الذين تغنوا بالقيمة ذاتها أمثال المتنبي الذي يقول.
عش عزيزا أو مت وأنت كريم                    بين طعن القنا وخفق البنود
       وإذا كنا – في ضوء ما سبق – قد رسمنا خطوطا عامة لتمثيل البارودي بقيم تراثية فإنه بإمكاننا أن نشد راحلتنا نحو الصورة الفنية التي تظهر بوضوح ويلاحظ أن الصورة الشعرية عند البارودي تقوم على مكونات بلاغية تقليدية. انطلاقا من النماذج وزعت بين التشبيه ( تمثلها الذكرى لعيني –كأنني إليها على بعد... البيت الثاني ) والاستعارة في البيت السابع عشر. ( قؤول و أحلام الرجال عوازب     صؤول وأفواه المنايا فواغر ) وهي استعارة مكنية حذف المستعار منه, ذكرت صفة من صفاته أو شيء من لوازمه.
     ومن خلال النماذج السابقة يتبين أن الصورة الفنية الحسية قائمة على علاقة متشابهة في نطاق ما عرفه الموروث الشعري القديم.
     قصيدة سوف يبين الحق عمودية تخضع  لنظام الشطرين المتناظرين ( صدر – عجز ) بناها الشاعر على روي موحد ''الراء'' و قافية موحدة وهي قافية مطلقة . كما نظم الشاعر قصيدته على وزن البحر الطويل وهو من البحور الشعرية الأكثر ترددا لما تتيحه تفعيلته المركبة من جوازات.
     كما اعتمد الشاعر أيضا ظاهرة قديمة في مطالع القصائد القديمة و هي ظاهرة التصريع (زائر- الخواطر ) ليوفر إيقاعا يجذب المستمع و القارئ على حد سواء.
     كما إذا ما أمعنا النظر في إيقاع النص الداخلي فإننا نجد أن الإيقاع في النص لا يرتكز على الوزن, و إنما يتجلى كذلك في عنصر الانسجام من خلال.
     التوازي الصوتي التركيبي ( قؤول و أحلام الرجال عوازب     صؤول وأفواه المنايا فواغر )كما أن رغبة الشاعر في الإقناع و التأثير على المتلقي و إشراكه في تجربته الوجدانية جعلته يعتمد التكرار السجعي كالراء و الباء و اللام ...و أحرف المد التي منحت الشاعر نفسا ممتدا يساعده على التعبير على سعة ما يحس به , كما تتمثل العناصر الصوتية أيضا في التكرار اللفظي, ومنه على سبيل المثال ما ورد في البيت الأول ( طيف/الطيف) و هو تكرار التطابق انطلاقا من العلاقة الدلالية, و هكذا يتبين من خلال العناصر  الموسيقية السابقة, سواء منها الخارجية أو الداخلية أن بنية النص الإيقاعية خاضعة لنمط الكلاسيكي القديم, محافظة على ثوابت العروض  الخليلي بما يوافق البنية التقليدية للنموذج الشعري القديم.
      أما على مستوى الأساليب فإن الضمائر تتنوع في القصيدة , و تتنوع أساسا بين ضميري المتكلم و الغائب,ففي مجال الفخر تحضر الذات بواسطة ضمير المتكلم, لأن الغرض يتعلق بإعلاء صفات الذات الشاعرة. كما هو الحال في الشعر العربي القديم,حيث ذات الشاعر لا تنفصل عن النص, أما بخصوص التعبير عن المعاناة و الحكمة فيتأرجح الأمر بين ضميري المتكلم والغائب.ومن جهة أخرى تهيمن الجمل الفعلية على القصيدة مما أضفى عليها طابع الحركية و الاستمرارية. وجاءت أفعالها بصيغتي الماضي  و المضارع. و إذا تتبعنا الأساليب نجد الخبرية تطغى بصورة مكثفة مقارنة مع الإنشائية لأن الأسلوب الخبري يتناسب مع موضوع النص الذي يقتضي الأخباربالمعاناة من جهة وبالخصال والقيم الفخرية من جهة أخرى.
        يعتبر هذا النص مثالا واضحا لشعر البعث والإحياء، فشكل القصيدة الهندسي تقليدي، اعتمد فيه الشاعر نظام الشطرين المتناظرين ووحدة الوزن والقافية والروي وتصريع المطلع، كما أن شاعرنا عدد من أغراض القصيدة، وهي سمة تقليدية في القصيدة العمودية، حيث تحدث عن المعاناة والفخر والإرشاد وعارض فحول الشعراء في بعض من الأبيات، وظل معجم النص يرزح في التقليد، يمتح من معين اللغة التراثية، وما فتئت الصورة الشعرية تأخذ في القصيدة من مباحث البلاغة القديمة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، ولا يخرج إيقاع القصيدة سواء كان خارجيا أم داخليا عن التقليد.  .                                                                                           
شارك :

4 التعليقات: