الأحد، 20 أكتوبر 2019

تكسير البنية تحليل قصيدة الباب تقرعه الرياح

تم بواسطة في
11:52 ص
بعد نكبة فلسطين التي تزامنت مع هزيمة الجيوش العربية سنة1948م ، وما رافقها من شك في قداسة القصيدة العربية ، وبعدما فتح الشاعر الحديث ذهنه ووجدانه للثقافة الغربية،ظهرت قصيدة تكسير البنية التي حاولت بقالبها الإيقاعي الجديد تصوير واقع الإنسان وتعرية تناقضاته،ويعتبر السياب، ذلك الشاعر العراقي وإلى جانب جماعة من شعراء عصره وأبرزهم البياتي، أحد رواد هذا النمط الجديد، تغنى بقضايا قومية وإنسانية وذاتية، فما موضوع قصيدته قيد التحليل؟ وما خصائصها الفنية الجمالية التي تجعل منها قصيدة حداثية؟
شكل القصيدة الحديث، الذي تجاوز بنية البيت إلى السطر والجملة الشعريتين، وتنوع حروف الروي والقافية... كلها مؤشرات إيقاع جديد سيختلف عما ألفناه عند شعراء الإحياء ومن قبلهم،أما عنوان القصيدة وخاصة إذا ما ربطناه بمقدمتها،فمؤشر يدفعنا إلى توقع أن يتغنى الشاعر بقصة اغترابه وما ولدته من شوق وحنين،فما حقيقة اغتراب الشاعر؟
يستهل الشاعر قصيدته بمقطع شعري يعبر من خلاله عن شوقه الشديد إلى بلده العراق الذي تمثل له في صورة أنثى،ثم يعبر في المقطع الثاني عن غربته في بلاد المهجر حيث غدا منكسرا مهموما يتذكر أمه ويتحسر على رحيلها الأبدي ويناجيها لتسمع صرخات قلبه الذي يذبحه الحنين إلى العراق.
إنها تجربة غربة وضياع، وتصوير حي لاغتراب الإنسان في واقعه الحضاري، وقدرة هائلة من الشاعر لإعطاء تجربته الذاتية بعدا إنسانيا،وانسجاما مع ثنائية الغربة والشوق، توزعت ألفاظ القصيدة علىحقلين دلالين، حقل دال على غربة الشاعر، وتحيل عليه الألفاظ التالية" غريب أمس، راح، يزحف،انكسار،يمشي على قدمين، ..." وحقل دال على شوق الشاعر للأم وللوطن وتحيل عليه الألفاظ التالية " صرخات قلبي، الحنين العراق،صدى القبلات،أماه،الفراق، العراق..." وبين الحقلينعلاقة سببية لأن الشوق نتاج الغربة، والمتأمل في طبيعة معجم القصيدة يجد أن الشاعر انزاح عن اللغة المألوفة و ابتعد عنها إلى لغة مشحونة بحمولة رمزية،فالريح رمز للضياع والليل رمز للتشرد والنخلة رمز للوطن،ومحطات القطار رمز للاغتراب... وهذا دليل تجديد في القصيدة، يضاف إلى جديدها على مستوى المضمون ولجديدها على مستوى الإيقاع الذي يظهر وكما دل تقطيعنا للمقطع الأول أن الشاعر أحدث من خلاله ثورة على الإيقاع القديم، فقد تجاوزالشاعر البيت إلى السطر، واستغنى عن بحر الكامل بتفعيلاته المحدودة مقتصرا على تفعيلته " متفاعلن" التي وزعها على أسطره الشعرية بشكل متفاوت يراعي طول وقصر دفقاته الشعورية، وهي تفعيلة استعملت بتحققات مختلفة نتيجة ما أصابها من زحاف كثير، فقد تحولت من "مستفعلن" إلى متفاعلن بإضمار الثاني المتحرك، وإلى متفاعلان، ومتفاعلاتن، ... هذا ونوع الشاعر من أضربه ولم يلتزم بوحدة الضرب، فقد استعمل أضربا منها:"متفاعلن/متفاعلان/ مت/ " مع حضور أكبر للضرب الثاني،وهو تنوع أفضى ضرورة إلى تنوع القافية وحروف الروي، فالقافية جاءت مركبة من حروف روي يظهر بعضها ثم يغيب ثم سرعان ما يتردد صداه من جديد ومنها"القاف/الكاف/الميم/ الراء"، هذا وخرق الشاعر الوقفتين العروضية والدلالية،معتمدا على تقنية التدوير خاصة عندما وزع تفعيلة متفاعلن بين السطر الثاني والثالث على الشكل التالي متـــ/ فاعلن، والتضمين عندما جعل معاني أسطر كثيرة لا تتم إلا باستحضار أسطر قبل أو بعد، ومن ذلك قوله" أماه أتسمعين " وهو سطر بحاجة إلى سطر آخر يقول فيه"صرخات قلبي ..."،أما بخصوص الإيقاع الداخلي للقصيدة فقد تحقق بالاعتماد على ظاهرة التكرار خاصة تكراربعض الكلمات "ما قرعته /ما قرعته،الباب/ الباب،الريح/ الرياح/ كيف انطلقت/ كيف انطلقت...،ولم يتوقف جديد الشاعر هاهنا بل واصل رحلة التجديد حتى على مستوى خلقه التصويري،فقد وظف التشبيه في قوله " الريح تحمل لي صدى القبلات منها كالحريق" مشبها أشواق العراق التي حملتها الريح بالحريق في حرارتها، وهو تشبيه فيه قدرة على الجمع بين طرفين بينهما تباعد وتنافر لا تقارب،كما وظف الانزياح في قوله " أتسمعين صرخات قلبي وهو يذبحه الحنين " مسندا فعل الذبح للحنين، ليعبر بطريقة ايحائية على أن حنينه إلى وطنه قد مزق روحه وكيانه النفسي،دونما نسيان بلغة الاستعارة في قوله"الريح تحمل/هزها الحب/يزحف في انكسار...،أسلوبيا زاوج الشاعر بين لغة الخبر والإنشاء، فقد وظف الأساليب الخبرية ليخبر وبطريقة إيحائية تفاصيل غربته وشوقه، ووظف الإنشاء خاصة النداء " يا ولدي.../ والندبة " أماه..." والاستفهام " أين أنت؟ أتسمعين؟كيف تعود وحدك؟... للتعبير عن أقصى درجات الانفعال والتوتر.
وختاما وبعد هذا التحليل والتفكيك، نجزم جزم يقين بأنقصيدة بدر شاكر السياب ، قصيدة حداثية استطاعت تصوير واقع الشاعر وما يعانيه من ألم الغربة، وهي قصة اغتراب تعطي صورة حقيقية عما يعانيه الإنسان العربي سواء داخل أو خارج وطنه،كما استطاعت تجاوز عمود الشعر خاصة على مستوى ما أحدثته من ثورة إيقاعية، وانزياح لغوي.
ليكون بذلك بدر شاكر السياب قد ساهم فيتطور الشعر العربي الحديث وفتح أمامه آفاقا للتجدد والتحرر..
الأحد، 19 يوليو 2015

منهجية البعث والاحياء

تم بواسطة في
8:48 م
 نتيجة لأحداث التاريخية التي عرفتها منطقة الشرق العربي عموما, ومصر على وجه الخصوص في أواخر القرن التاسع  عشر وبداية القرن العشرين ظهرت حركة شعرية متميزة  اختلف الباحثون والناقدون في تسميتها, فمنهم من سماها المدرسة التقليدية ومنهم المدرسة المحافظة , إلا أن هدفهم كان واحدا إحياء نموذج القصيدة العربية و إنقاذها من الضعف والضحالة الذي أصابها, والنهوض بها عبر محاكاة النماذج الشعرية القديمة من حيث الشكل ومن حيث خصائص المضمون ومن أهم رواد هذا الاتجاه أحمد شوقي, محمود سامي البارودي, حافظ إبراهيم, و إسماعيل صبري.  ويعتبر محمود سامي البارودي من رواد هذه التجربة الشعرية في عصر  النهضة الذين تمكنوا من الدود على هذا الاتجاه ولد سنة 1839 في حي باب الخلق في القاهرة بمصر .
           فهل استطاع محمود سامي البارودي في هذه القصيدة الامتثال للنموذج التقليدي .وإلى أي حد وظف التراث الشعري والتقيد  بملامح القصيدة التقليدية سواء من حيث الشكل أو من حيث خصائص المضمون ؟
 إن المتأمل في هذه القصيدة يدرك من الوهلة الأولى أن شكلها لا يختلف في شيء عن القصائد العربية القديمة فهي من الشعر العمودي الذي يقوم على نظام الشطرين المتناظرين (صدر- عجز)، ويتقيد فيه صاحبه بنفس الوزن والقافية والروي.
        والعنوان سوف يبين الحق مركب فعلي يحيل على أمل يمكن التحقق في المستقبل, حيث يفيد في مجمله استحضار الشاعر لقيمة تراثية الموروثة متمثلة في قيمة المدح  مما يفضي بنا إلى استنتاج عام مفاده أننا على عتبات تجربة تراثية إحيائية.
         كما أن قراءة أبياتها ( 1- 6-11-20) تفضي بنا إلى استنتاج عام مفاده أن ثمة مواقف مختلفة وأبعاد متعددة، ومعاني متنوعة، تختزل تجربة الشاعر وتعلن عن أحوله النفسية، وانفعالاته الداخلية، وخصاله النبيلة.
ولكي نقف بشكل مفصل على هذا الأمر سنعمل على تقسيم القصيدة إلى مجموعة من الوحدات.
الوحدة الأولى : وتضم الأبيات من 1 إلى 5 ) حيث يبدأ فيها الشاعر بمقدمة وجدانية يناجي فيها طيف ابنته سميرة وهو في المنفى.
الوحدة الثانية : وتضم الأبيات من ( 6 إلى 10 ) تعبير الشاعر عن الإحساس بالمعاناة والتحلي بالصبر في مواجهتها.
الوحدة الثالثة :  وتضم الأبيات من ( 11 إلى 19 ) افتخار الشاعر بمجموعة من القيم منها عزة النفس والتطلع إلى المعالي والشاعرية...
الوحدة الرابعة وتضم الأبيات من ( 20 إلى 24 ) تعزية الشاعر نفسه وتبرير فشله مع إبراز أمله في انفراج غمته قريبا.
       من خلال ما سبق يتبين أن النص تجربة يعبر فيها الشاعر عن معاناته من فراق الأهل ومن غربة في المنفى بعيدا عن الوطن كما يفتخر فيها بخصاله الحميدة ويبدوا أن هذه المضامين موافقة لخطاب إحياء النموذج في إطار غرض الفخر والمعاناة الشخصية .
      كما يتبين أن القصيدة ليست واحدة  بل تتعدد باختلاف المواقف المعبرة عنها. ومن هنا نلحظ أن قصيدة البارودي تخضع لتعدد الأغراض الشعرية مما يدل على أن الشاعر اتخذ من النظام التقليدي القديم نموذج له.
     وللتعبير عن تلك المضامين اختار الشاعر ألفاظا من القاموس الشعر القديم (السمادر-,مندوحة-المعاير-المفاقر-فواغر-رزية...) ويتميز في معجمه بين ثلاث حقول دلالية : تتضمن الأولى ألفاظا وعبارات تدل على الفراق والمعاناة ( تأوب – الطيف – الخواطر – بعد... ) بينما تدل الثانية على الصبر والتفاؤل صبرت – يركن – أصابه... ) في حين تحيل الثالثة علىالفخر ( ملكت – عقاب – غادرتها – رمت – أبت – الكريمة – نفسي... ) .
       من خلال مما سبق يتبين أن الشاعر قد تعامل مع حقول دلالية متعددة ساهمت في تشكيل لحمة النص، وكذالك تبيان مدى تشبثه بالقيم الثقافية الموروثة،التي تشدك بحبال قوية إلى الماضي البعيد بكل ما يحبل به من قيم لم يترد البارودي في إحيائها وبعثها لكن يبقى أبرزها تلك التي تغنت بقيم الفروسية وهو بذالك يحاكي مجموعة من الشعراء القدماء الذين تغنوا بالقيمة ذاتها أمثال المتنبي الذي يقول.
عش عزيزا أو مت وأنت كريم                    بين طعن القنا وخفق البنود
       وإذا كنا – في ضوء ما سبق – قد رسمنا خطوطا عامة لتمثيل البارودي بقيم تراثية فإنه بإمكاننا أن نشد راحلتنا نحو الصورة الفنية التي تظهر بوضوح ويلاحظ أن الصورة الشعرية عند البارودي تقوم على مكونات بلاغية تقليدية. انطلاقا من النماذج وزعت بين التشبيه ( تمثلها الذكرى لعيني –كأنني إليها على بعد... البيت الثاني ) والاستعارة في البيت السابع عشر. ( قؤول و أحلام الرجال عوازب     صؤول وأفواه المنايا فواغر ) وهي استعارة مكنية حذف المستعار منه, ذكرت صفة من صفاته أو شيء من لوازمه.
     ومن خلال النماذج السابقة يتبين أن الصورة الفنية الحسية قائمة على علاقة متشابهة في نطاق ما عرفه الموروث الشعري القديم.
     قصيدة سوف يبين الحق عمودية تخضع  لنظام الشطرين المتناظرين ( صدر – عجز ) بناها الشاعر على روي موحد ''الراء'' و قافية موحدة وهي قافية مطلقة . كما نظم الشاعر قصيدته على وزن البحر الطويل وهو من البحور الشعرية الأكثر ترددا لما تتيحه تفعيلته المركبة من جوازات.
     كما اعتمد الشاعر أيضا ظاهرة قديمة في مطالع القصائد القديمة و هي ظاهرة التصريع (زائر- الخواطر ) ليوفر إيقاعا يجذب المستمع و القارئ على حد سواء.
     كما إذا ما أمعنا النظر في إيقاع النص الداخلي فإننا نجد أن الإيقاع في النص لا يرتكز على الوزن, و إنما يتجلى كذلك في عنصر الانسجام من خلال.
     التوازي الصوتي التركيبي ( قؤول و أحلام الرجال عوازب     صؤول وأفواه المنايا فواغر )كما أن رغبة الشاعر في الإقناع و التأثير على المتلقي و إشراكه في تجربته الوجدانية جعلته يعتمد التكرار السجعي كالراء و الباء و اللام ...و أحرف المد التي منحت الشاعر نفسا ممتدا يساعده على التعبير على سعة ما يحس به , كما تتمثل العناصر الصوتية أيضا في التكرار اللفظي, ومنه على سبيل المثال ما ورد في البيت الأول ( طيف/الطيف) و هو تكرار التطابق انطلاقا من العلاقة الدلالية, و هكذا يتبين من خلال العناصر  الموسيقية السابقة, سواء منها الخارجية أو الداخلية أن بنية النص الإيقاعية خاضعة لنمط الكلاسيكي القديم, محافظة على ثوابت العروض  الخليلي بما يوافق البنية التقليدية للنموذج الشعري القديم.
      أما على مستوى الأساليب فإن الضمائر تتنوع في القصيدة , و تتنوع أساسا بين ضميري المتكلم و الغائب,ففي مجال الفخر تحضر الذات بواسطة ضمير المتكلم, لأن الغرض يتعلق بإعلاء صفات الذات الشاعرة. كما هو الحال في الشعر العربي القديم,حيث ذات الشاعر لا تنفصل عن النص, أما بخصوص التعبير عن المعاناة و الحكمة فيتأرجح الأمر بين ضميري المتكلم والغائب.ومن جهة أخرى تهيمن الجمل الفعلية على القصيدة مما أضفى عليها طابع الحركية و الاستمرارية. وجاءت أفعالها بصيغتي الماضي  و المضارع. و إذا تتبعنا الأساليب نجد الخبرية تطغى بصورة مكثفة مقارنة مع الإنشائية لأن الأسلوب الخبري يتناسب مع موضوع النص الذي يقتضي الأخباربالمعاناة من جهة وبالخصال والقيم الفخرية من جهة أخرى.
        يعتبر هذا النص مثالا واضحا لشعر البعث والإحياء، فشكل القصيدة الهندسي تقليدي، اعتمد فيه الشاعر نظام الشطرين المتناظرين ووحدة الوزن والقافية والروي وتصريع المطلع، كما أن شاعرنا عدد من أغراض القصيدة، وهي سمة تقليدية في القصيدة العمودية، حيث تحدث عن المعاناة والفخر والإرشاد وعارض فحول الشعراء في بعض من الأبيات، وظل معجم النص يرزح في التقليد، يمتح من معين اللغة التراثية، وما فتئت الصورة الشعرية تأخذ في القصيدة من مباحث البلاغة القديمة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، ولا يخرج إيقاع القصيدة سواء كان خارجيا أم داخليا عن التقليد.  .                                                                                           

مقدمات وخواتم الشخص والغير

تم بواسطة في
8:36 م

مقدمة الشخص 

يتأطر النص الذي نحن بصدد دراسته ضمن مجال التأمل الفلسفي في الوضع البشري في بعده الذاتي، هذا التأمل الذي- ينطلق من السؤال عن علاقة الإنسان بذاته من خلال مفهوم الشخص. فإذا كان مفهوم الشخص يتحدد فلسفيا، "ككيان عقلي- نفسي، يحمل مجموعة من الصفات الثابتة والقبلية مثل الوعي والكرامة، والحرية والمسؤولية الأخلاقية"، وبما أن صفة الحرية الواردة في هذا التعريف، تحيل على "لاحتمية الإرادة البشرية التي تتجلى في الفعل الخلاق بدون دافع ضروري "، فإننا نقف أمام مفارقة مفاهيمية يطرحها تقابل مفاهيم الحرية و الإرادة والفعل الخلاق من جهة، ومفاهيم الحتمية والدوافع و الضرورة من جهة ثانية.
فإلى أي حد يمكن اعتبار الشخص متحررا من حتمية الضرورات البيولوجية والاجتماعية..؟ هل يتعلق الأمر بحرية مطلقة؟ أم بهامش محدود ومشروط من الحرية، أم بخضوع الشخص بشكل مطلق للضرورات الموضوعية الخارجة عن إرادته 

=======خاتمــــــــــــــــــــــــة الشخص بين الضرورة والحثمية========

نخلص في الأخير إلى إن مشكلة حرية الشخص، أدت إلى تبلور تصورين أحدهما سائد في حقل العلوم الإنسانية التي تنشغل، شأنها شأن أي علم بالبعد السببي للظواهر المدروسة، والتصور الثاني سائد في الخطاب الفلسفي. إلا أنه إذا كان من اللازم التحفظ على ميكانيكية المقاربة العلمية، فمن اللازم أيضا الحذر من الذهاب مع سارتر في إطلاقية الحرية، هذا التحفظ يمكن أن نجده بشكل مسبق عند سبينوزا في القرن 17، عندما نبه إلى أن الحرية المطلقة للأفعال البشرية وهم ناتج عن الجهل بأسباب هذه الأفعال، وأن الحرية الحقيقية هي "وعي الضرورة" أي العلم بالأسباب المحددة للفعل البشري، ومن ثم إمكانية تدخل الإرادة. وهذا التصور، في نظرنا، عبارة عن تركيب ناضج سابق لعصره بين حدي الحتمية والحرية. لكن هل يمكن أن يكون لهذين الحدين من معنى في غياب الحديث عن الغير ككيان ملازم للشخص؟
************************************************
 قيمة الشخص:

مقدمة

يتأطر النص الذي نحن بصدد دراسته ضمن مجال التأمل الفلسفي في الوضع البشري في بعده الذاتي، هذا التأمل الذي- ينطلق من السؤال عن علاقة الإنسان بذاته من خلال مفهوم الشخص. فإذا كان مفهوم الشخص يتحدد فلسفيا، "ككيان عقلي- نفسي، يحمل مجموعة من الصفات الثابتة والقبلية مثل الوعي والكرامة، والحرية والمسؤولية الأخلاقية"،
إذا كان التعامل بين الناس في الممارسة الاجتماعية اليومية يحكمه في غالب الأحيان رهان المنفعة، فإن الشخص نفسه يتحول أحيانا إلى موضوع لهذا الرهان، إذ يمكن أن ينحط إلى مستوى الأداة التي عبرها يحقق الآخرون أهدافهم النفعية. وهنا نقف أمام مفارقة كبرى بين كون الشخص ذاتا متمتعة بالكرامة كما حددها الخطاب الفلسفي الأنواري، وبين كونه مجرد وسيلة لتحقيق أهداف نفعية. وهي مفارقة تنفتح بنا على تساؤلات فلسفية أخلاقية من قبيل:
هل الشخص البشري غاية في ذاته أم مجرد وسيلة؟ وهل يمتلك قيمة مطلقة وكونية، أم مجرد قيمة نسبية ومشروطة؟ وما هو المعيار الذي على أساسه يمكن للكائن البشري أن يمتلك قيمة أصيلة ويجدر بالاحترام والكرامة ويستحق حقوقا كونية؟

======== خاتمة قيمة الشخص:==========

من خلال اشتغالنا التحليلي والنقدي على النص موضوع الدراسة، نستنتج في الأخير أن التقليد الكانطي منذ عصر الأنوار حتى الآن يمثل خطا فلسفيا مدافعا عن القيمة العليا للإنسان كإنسان، ضدا على القيمة الأداتية التي يتخذها هذا الأخير في غمار الممارسة الاجتماعية الملموسة، خاصة في عصر سيادة قيم السوق. وإذا كانت هذه التصورات الفلسفية معبرة عما ينبغي أن يكون، أكثر مما تعبر عما هو كائن فعليا في المجتمعات المعاصرة القائمة على اقتصاد السوق الذي تحركه معايير الربح والمردودية وتحكمه القيم السلعية، بحيث أن كل شيء، بما فيه الأشخاص، خاضع للتقويم السلعي. فإن هذا لا يقلل من قيمتها بقدر ما يؤكد على الحاجة إلى تبنيها نظريا والنضال من أجل تحقيقها عمليا.

=====================الغير=======================

 مقدمة الغير  المعرفة / العلاقة

بقدر ما يعتبر مفهوم الإنسان بناء نظريا كليا ومجردا، بقدر ما يحيل على شروط خاصة تميز الوجود البشري عن وجود بقية الكائنات. فإذا كانت الغريزة هي نمط حياة هذه الأخيرة، فإن كينونة الإنسان لها أبعاد أخرى فوق-غريزية تتميز بالتعقيد والتعالي المستمر، إذ هو لا يوجد فقط وإنما يعي هذا الوجود، ومن ثم يوجد من أجل ذاته، وهو لا يرتبط بالأغيار من بني جنسه بوشائج بيولوجية فحسب (التناسل، الدفاع عن مجال الغذاء...)، وإنما تربطه بهم علاقات أكثر تعقيدا حتى يمكننا القول أن وجود الإنسان وجود علائقي. إذ الغير هو الكيان الإنساني الآخر، الموجود خارج الذات، الشبيه بها والمختلف عنها في الآن نفسه، وهو من ثمة الغريب المجهول بالنسبة لها، والقريب الشفاف أمام حدسها، وهو مصدر الاطمئنان والألفة و مصدر الحذر والخوف. هذه هي المفارقات التي تكثفها القولة الفلسفية التالية:"الغير هو الآخر، هو الأنا الذي ليس أنا"، مما يدفعنا إلى التساؤل:
كيف سيكون بإمكان الذات معرفة هذا الغير وإدراك حقيقته؟ هل يمكنها معرفته داخليا كذات أخرى مماثلة لها، من حيث الخواص الفكرية والعمق النفسي، أم أن معرفتها به لا تتأتى إلا على نحو خارجي موضوعي، على الشكل الذي تدرك به الأشياء؟
وما طبيعة العلاقة الممكنة بين الذات والغير؟ أهي علاقة صداقة وتعايش وتفهم متبادل، أم هي علاقة غرابة وصراع وإقصاء متبادل؟ وما السبيل لأن تكون هذه العلاقة علاقة تعايش وتكامل؟ وإلى أي حد استطاع صاحب القولة أن يحيط بكل أبعاد الوجود العلائقي للإنسان؟

==================الخاتمـــــــــــــــــــــــــــــــة:================


نستنتج أن كون الغير كيانا مختلفا عن ذاتنا يجعل علاقتنا به تتخذ صبغة إشكالية، تلتبس فيها القرابة بالغرابة، وتتراوح بين التعايش والصراع. غير أن معاداة الغير تجد جذورها أساسا في الأحكام المسبقة التي تكونها الذات عنه بعيدا عن أي أساس واقعي، وفي غياب أية محاولة للتفهم. إذ يمكن تفسير هذه المعاداة بإرجاعها إلى شروط نفسية يمكن أن تعيشها الذات، مثل اليأس والإحباط، تدفعا إلى طلب العزاء والتعويض في دفئ الانتماء إلى الجماعة، وتوهم امتلاك هذه الأخير لهوية نقية ومتجانسة، ومن ثم نسبة جميع مساوئ الذات وإحباطاتها إلى الغير..